سورة يس - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: قال من قبل: {لّتُنذِرَ} [يس: 6] وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا وقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ} وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما؟ نقول من وجوه:
الأول: هو أن قوله: {لّتُنذِرَ} أي كيفما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن وقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ} أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى الثاني: هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه: ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول: يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك الثالث: هو أن نقول قوله: {لّتُنذِرَ} أي أولاً فإذا أنذرت وبالغت وبلغت واستهزأ البعض وتولى واستكبر وولى، فأعرض بعد ذلك فإنما تنذر الذين اتبعوك الرابع: وهو قريب من الثالث إنك تنذر الكل بالأصول، وإنما تنذر بالفروع من ترك الصلاة والزكاة من اتبع الذكر وآمن.
المسألة الثانية: قوله: {مَنِ اتبع الذكر} يحتمل وجوهاً الأول: وهو المشهور من اتبع القرآن الثاني: من اتبع ما في القرآن من الآيات ويدل عليه قوله تعالى: {والقرءان ذِي الذكر} [ص: 1] فما جعل القرآن نفس الذكر الثالث: من اتبع البرهان فإنه ذكر يكمل الفطرة وعلى كل وجه فمعناه: إنما تنذر العلماء الذين يخشون وهو كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وكقوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 82] فقوله: {اتبع الذكر} أي آمن، وقوله: {وَخشِيَ الرحمن} أي عمل صالحاً وهذا الوجه يتأيد بقوله: {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لأنا ذكرنا مراراً أن الغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل كما قال تعالى: {الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4] وتفسير الذكر بالقرآن يتأيد بتعريف الذكر بالألف واللام، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى: {والقرءان الحكيم} [يس: 2] وقوله: {وَخشِيَ الرحمن} فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة: هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] حتى قال بعض الأئمة: هما علمان إذا عرفت هذا فالله اسم ينبئ عن الهيبة والرحمن ينبئ عن العاطفية فقال في موضع {يرجو الله} [الأحزاب: 21] وقال هاهنا: {وَخشِيَ الرحمن} يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه، وقوله: {بالغيب} يعني بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة، والمشهور أن المراد بالغيب ما غاب عنا وهو أحوال القيامة، وقيل إن الوحدانية تدخل فيه، وقوله: {فَبَشّرْهُ} فيه إشارة إلى الأمر الثاني من أمري الرسالة فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير وقد ذكر أنه أرسل لينذر وذكر أن الإنذار النافع عند اتباع الذكر، فقال بشر: كما أنذرت ونفعت، وقوله: {بِمَغْفِرَةٍ} على التنكير أي بمغفرة واسعة تستر من جميع الجوانب حتى لا يرى عليه أثر من آثار النفس ويظهر عليه أنوار الروح الزكية {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي ذي كرم، وقد ذكرنا ما في الكريم في قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4] وفي قوله: {وَرِزْقًا كَرِيماً} [الأحزاب: 31].


{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}
في الترتيب وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر.
وثانيها: وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله: {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} [يس: 11] ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم ير في الدنيا فالله يحيي الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين.
وثالثها: أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: {إِنَّا نَحْنُ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبراً كقول القائل:
أنا أبو النجم وشعري شعري ***
ومثل هذا يقال عند الشهرة العظيمة، وذلك لأن من لا يعرف يقال له من أنت؟ فيقول: أنا ابن فلان فيعرف ومن يكون مشهوراً إذا قيل له من أنت يقول أنا أي لا معرف لي أظهر من نفسي فقال: إنا نحن معروفون بأوصاف الكمال، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى وثانيهما: أن يكون الخبر {نُحْىِ} كأنه قال إنا نحيي الموتى، و{نَحْنُ} يكون تأكيداً والأول أولى.
المسألة الثانية: {إنا نحن} فيه إشارة إلى التوحيد لأن الاشتراك يوجب التمييز بغير النفس فإن زيداً إذا شاركه غيره في الاسم، فلو قال أنا زيد لم يحصل التعريف التام، لأن للسامع أن يقول: أيما زيد؟ فيقول ابن عمرو ولو كان هناك زيد آخر أبوه عمرو لا يكفي قوله ابن عمرو، فلما قال الله: {إِنَّا نَحْنُ} أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى تقول أنا كذا فنمتاز، وحينئذٍ تصير الأصول الثلاثة مذكورة؛ الرسالة والتوحيد والحشر.
المسألة الثالثة: قوله: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} فيه وجوه:
أحدها: المراد ما قدموا وأخروا فاكتفى بذكر أحدهما كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والمراد والبرد أيضاً.
وثانيها: المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة وهو كما قال تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي بما قدمت في الوجود على غيره وأوجدته.
وثالثها: نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم على هذا الوجه.
المسألة الرابعة: وآثارهم فيه وجوه:
الأول: آثارهم أقدامهم فإن جماعة من أصحابه بعدت دورهم عن المساجد فأرادوا النقلة فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليه فالزموا بيوتكم».
والثاني: هي السنن الحسنة، كالكتب المصنفة والقناطر المبنية، والحبائس الدارة، والسنن السيئة كالظلمات المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة، وآلات الملاهي وأدوات المناهي المعمولة الباقية، وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجر العامل شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».
فما قدموا هو أفعالهم وآثارهم أفعال الشاكرين فبشرهم حيث يؤاخذون بها ويؤجرون عليها والثالث: ما ذكرنا أن الآثار الأعمال وما قدموا النيات فإن النية قبل العمل.
المسألة الخامسة: الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال: نحيي ونكتب ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم نقول الكتابة معظمة لأمر الإحياء لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً فالإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره، فلهذا قدم الإحياء ولأنه تعالى لما قال: {إِنَّا نَحْنُ} وذلك يفيد العظمة والجبروت، والإحياء عظيم يختص بالله والكتابة دونه فقرن بالتعريف الأمر العظيم وذكر ما يعظم ذلك العظيم وقوله: {وَكُلَّ شيْء أحصيناه فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} يحتمل وجوهاً أحدها: أن يكون ذلك بياناً لكون ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لا يبدل، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} بين أن قبل ذلك كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوه كتب عليهم أنهم فعلوه.
وثانيها: أن يكون ذلك مؤكداً لمعنى قوله: {وَنَكْتُبُ} لأن من يكتب شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال: نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهذا كقوله تعالى: {عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كتاب لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52].
وثالثها: أن يكون ذلك تعميماً بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه، بل كل شيء محصي في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئاً من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله ولا يفوته، وهذا كقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيء فَعَلُوهُ فِي الزبر * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 52، 53] يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء فعلوه مكتوب، وقوله: {أحصيناه} أبلغ من كتبناه لأن من كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده فقال: هو محصي فيه وسمي الكتاب إماماً لأن الملائكة يتبعونه فما كتب فيه من أجل ورزق وإحياء وإماتة اتبعوه وقيل هو اللوح المحفوظ، وإمام جاء جمعاً في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} [الإسراء: 71] أي بأئمتهم وحينئذٍ فإمام إذا كان فرداً فهو ككتاب وحجاب وإذا كان جمعاً فهو كجبال وحبال والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهراً للملائكة ما يفعلون وللناس ما يفعل بهم وهو الفارق يفرق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}
وفيه وجهان، والترتيب ظاهر على الوجهين الوجه الأول: هو أن يكون المعنى واضرب لأجلهم مثلاً والثاني: أن يكون المعنى واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلاً أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية وعلى الأول نقول لما قال الله: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وقال: {لّتُنذِرَ} [يس: 6] قال قل لهم: {مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} [الأحقاف: 9] بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة، وعلى الثاني نقول لما قال الله تعالى إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه الصلاة والسلام فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلاً، أي مثل لهم عند نفسك مثلاً حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء، وأنت جئتهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤا قرية وأنت بعثت إلى العالم، وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: ما معنى قول القائل ضرب مثلاً؟ وقوله تعالى: {واضرب} مع أن الضرب في اللغة، إما إمساس جسم جسماً بعنف، وإما السير إذا قرن به حرف في كقوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} [النساء: 101] نقول قوله ضرب مثلاً معناه مثل مثلاً، وذلك لأن الضرب اسم للنوع يقال هذه الأشياء من ضرب واحد أي اجعل هذا وذاك من ضرب واحد.
المسألة الثانية: أصحاب القرية، معناه واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] هذا قول الزمخشري في الكشاف، ويحتمل أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً أو مثل أصحاب القرية بهم.
المسألة الثالثة: {إذ جاءها المرسلون}، (إذ) منصوبة لأنها بدل من (أصحاب القرية) كأنه قال تعالى: {واضرب لَهُم} وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقت مجيئك، وهذا أيضاً قول الزمخشري وعلى قولنا إن هذا المثل مضروب لنفس محمد صلى الله عليه وسلم تسلية فيحتمل أن يقال إذا ظرف منصوب بقوله: {اضرب} أي اجعل الضرب، كأنه حين مجيئهم وواقع فيه، والقرية أنطاكية والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة كما بين الله تعالى وقوله: {إِذ أَرْسَلْنَا} [يس: 14] يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون إذ أرسلنا بدلاً من إذ جاءها كأنه قال الضرب لهم مثلاً، إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين وثانيهما: وهو الأصح والأوضح أن يكون إذ ظرفاً والفعل الواقع فيه جاءها أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما جاءوهم حيث أمروا، وهذا فيه لطيفة: وهي أن في الحكاية أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى: إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وأنت رسول الله فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله: {إِذ أَرْسَلْنَا} وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول، وهذا على قولنا: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً} ضرب المثل لأجل محمد صلى الله عليه وسلم ظاهر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8